صراع العمالقة- البراندات بين مطرقة الاقتصاد وسندان الهوية

المؤلف: هيلة المشوح09.22.2025
صراع العمالقة- البراندات بين مطرقة الاقتصاد وسندان الهوية

إن "اضطراب العلامات التجارية" ليس مجرد صدفة عابرة، ولا هو صراع عشوائي محض، بل هو تجسيد مباشر لتنافس محموم بين قوتين اقتصاديتين تسعيان جاهدتين لفرض أنماط استهلاكية متباينة، وتأكيد حضور سياسي واقتصادي لا يرضى بالمنافسة. إنها ليست مجرد منافسة تجارية في الأسواق، بل هي معركة ضروس للسيطرة على العقول والهويات والأذواق، حيث تحمل كل علامة تجارية بين طياتها دولة بأكملها، وأيديولوجية راسخة لنظام اقتصادي يتوق إلى الهيمنة المطلقة. وبإيجاز شديد، فإن الاتهام الموجه للعلامات التجارية العالمية يتمحور حول قيامها بتصنيع منتجاتها في الصين، ثم عرضها في متاجرها الفارهة بأسعار باهظة. منذ أن بزغت الصين كقوة اقتصادية عظمى، تحولت المنافسة بينها وبين الولايات المتحدة إلى ما يشبه "حربًا باردة تجارية"، أو "حربًا ناعمة". لقد تفوقت الصين في إيجاد بيئة صناعية ضخمة مكنتها من إنتاج ملايين المنتجات تحت مظلة آلاف العلامات التجارية، بعضها ذائع الصيت، وبعضها الآخر مجرد "ستار" لمصنع صغير. هذه الوفرة الهائلة أوجدت فوضى عارمة في السوق العالمية، وعلى رأسها السوق الأمريكية، حيث بات من الصعب على المستهلك التمييز بين المنتج الجيد والمنتج المقلد، أو بين العلامة التجارية المحلية والعلامة التجارية العالمية. في تقديري، واستنادًا إلى فهمي لما يحدث اليوم، فإن الأمر أعقد بكثير من مجرد فضائح العلامات التجارية التي تديرها الصين، بل وتلمح إلى تصنيعها محليًا بتكلفة متدنية، دون أن تتكبد فيها السوق الأمريكية والأوروبية سوى وضع "الشعار" ورفع سعرها بأرقام فلكية. فمنذ عام 2018، بدأت الولايات المتحدة بفرض "رسوم جمركية" باهظة على مئات المنتجات الصينية، ضمن ما أطلق عليه "الحرب التجارية" بين البلدين، بهدف تقليص العجز التجاري وكبح صعود الصين صناعيًا واقتصاديًا. وقد أدى ذلك إلى نشوء سوق موازية وخفية للبضائع الصينية المقلدة، مما ضاعف تعقيدات السوق وأفشل مسألة الرسوم التي تم رفعها اليوم من قبل إدارة الرئيس الأمريكي ترمب، والتي يبدو أنها لن تحقق النجاح المنشود أيضًا. الجدير بالذكر في هذه الحرب الاقتصادية أو "الحرب الناعمة" أن المستهلك في مختلف أنحاء العالم، وليس في منطقتنا فحسب، لم يعد مجرد هدف لهذه الحرب، بل تحول دون وعي منه إلى أداة فاعلة في إدارتها. فالولاء المفرط لعلامة تجارية معينة، والتعصب لعلامة دون أخرى، أو الحسرات التي يبثها بعض مشاهير وسائل التواصل الاجتماعي وأصحاب الثراء الفاحش، تكشف حجم التأثير الذي تمارسه الدول لفرض هيمنتها الاقتصادية، حيث ينخرط المستهلك في معركة طاحنة لا يدرك أبعادها الكاملة، مدفوعًا بما تغرسه الحملات التسويقية من قيم وانفعالات وانتماءات، أو حسرات على ضياع الثروات.. لا أكثر! العلامات التجارية الكبرى ليست طرفًا فاعلاً في المعركة الحالية، لكنها بالتأكيد ليست بمنأى عن نتائجها. وفي الوقت نفسه، فإن العلامات التجارية لا تثير الضجيج ولا تدافع عن تاريخها وكياناتها، خشية خسارة عملائها في جميع أنحاء العالم، الذين تشكل الصين نفسها جزءًا كبيرًا منهم. تحمي العلامات التجارية نفسها بالندرة، والمكانة الرفيعة، والحرفية المتقنة، والقصص الجذابة التي تستهوي عملائها. لكنها بطبيعة الحال لا تستطيع الانفصال التام عن عالم تتقاذفه حرب اقتصادية باردة بين الشرق والغرب. والشيء الأكيد في هذه العاصفة الهوجاء أنها لن تهدأ قريبًا، وستبقى الماركات العالمية طموحًا يراود أحلام الحالمين.. ومقتنيات ثمينة في متناول القادرين.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة